حدثنا مالك قال! (الجزء الأول) ..
"باردايم الإسلام الحضاري وعبء الجيل الحالي " ..
أنتمي لجيل ولد أو نشأ بعد وفاة مالك بن نبي. إنه الجيل الذي كبر على انكسار الحلم العربي الكبير الذي ازدهر في خمسينات القرن الماضي: جيل الهزيمة والتخبط والتيه. الجيل الذي افتتح وعيه بهزيمة 1967 وضياع القدس وكبر على الهزائم المتتالية منذ حصار بيروت إلى سقوط بغداد.
أنتمي إلى جيل هو جيل السقوط بلا منازع ولا جدال. جيل الإحباط واليأس من أي قدرة على أي تغيير. جيل فقد الثقة في نفسه وفي كل ما حوله وتوج تفاعله السلبي مع ظروفه بنماذج من الشباب أوصلهم فكرهم إلى طريق مسدود واحد: الانفجار انتحاراً ..
إنه جيل الإحباط بامتياز، هو هذا الجيل الذي أنتمي إليه، سواء كان هذا الإحباط انتحاراً مع كل الحجج التي تدعي الشريعة – أو تغريباً مدعوماً بسطوة الحلم الأمريكي المؤدلج– أو محض استسلام سلبي لكل ما تأتي به رياح الظروف.
نعم . إنه جيل السقوط والإحباط، بلا منازع .. و بلا منافسة .. و بلا أي جدل.
فما الذي يجعلني أتحدث عن هذا وأنا أنوي التحدث عن مفكر النهضة مالك بن نبي؟
في الحقيقة إن الأمرين مرتبطان جداً. ليس "بالرغم من" انتمائي لجيل السقوط. بل "بسبب ذلك".
جيل السقوط والإحباط، هو الذي يحتاج إلى مالك أن يقول له.
ليس "بالرغم من" .. ، بل " بسبب".
******************
كنت في السابعة عشر من عمري عندما تعرفت إلى مالك للمرة الأولى. ابتعت تلك النسخة القديمة المهملة التي تنازل عنها صاحبها إلى سوق الكتب المستعملة.
لا أزال أذكر كيف هزني الكتاب، ولكن أيضا كم شعرت بالإحباط المر يجتاحني بعدما انتهيت من قراءته ........
شعرت بغم لا حدود له، لا لشيء، إلا لأني لم أكن قد سمعت بمالك قبل ذلك، ولا حتى باسمه رغم أني كنت "دودة كتب" حقيقية وقارض قديم من قوارضها منذ أن تعلمت الأبجدية، وكان عدم معرفتي بمالك ولا حتى باسمه وهو بهذا الحجم الذي اصطدمت به منذ أول كتاب، دليل على خلل كبير في الثقافة التي بدا لي أنها أمدتني بما هو خطأ ... لأقرضه.
قارنت يومها بين أصالة فكر مالك وبين رتابة وبلادة وديماغوجية العشرات بل المئات من الكتب التي كانت سائدة ومنتشرة ومدعومة بأسماء لها سطوة النجومية، وكانت المقارنة لصالح مالك، ولغير صالح الواقع الثقافي السائد.
بالنسبة لابن السابعة عشر كانت حقيقة "عدم شهرة " مالك، مقارنة بشهرة أسماء أخرى، حقيقة مؤلمة ومحبطة: كما لو أن المفكر الأصيل عليه أن يظل منفياً داخل غربته – بقدر أصالته وإبداعه.
كان ذلك درساً صعباً، تعلمته، وأنا بعد في "مراهقتي" – و كان مالك وشروطه، من الأشياء القليلة التي وضعتها في متاعي، فيما بعد ،عندما غادرت المراهقة إلى النضوج.
*************************
السنن الإلهية وعلاقتها بمبيعات الكتب
...لكن ما كان يمكن لمالك إلا أن يكون مغموراً في ذلك الواقع البائس الذي ما كان لرموزه وشخوصه الثقافية إلا أن تمثل انحطاطه وتخلفه.
ما كان للكتب الرائجة على الرصيف إلا أن تكون نموذجاً لواقع ثقافي ما كان ليرتفع أنملة عن "الرصيف"..
وما كان يمكن للقائي بمالك، إلا أن يكون صدفة، عند بائع لكتب قديمة ومستعملة.
كل ذلك كان طبيعياً جداً. كان جزءاً من القانون الطبيعي الذي يحكم الكون. جزء من طبيعة الأشياء، ومن معادلة الانحطاط. وكان الأمر سيكون "ضد الطبيعة" لو كان اسم "مالك بن نبي" لامعاً وكانت كتبه تباع في كل مكان مع كتب الأدعية والجن والفتاوى المعلبة ....كان الأمر سيكون مخالفاً "للسنة الإلهية" لو أن واقعاً ثقافياً مزرياً تقبل وأحتضن أفكاراً كأفكار مالك ...
لكن بما أننا، واقعنا، وجيلي - تحديداً - وصلنا إلى ما يبدو أنه نقطة النهاية، سواء كان ذلك عبر الانتحار المؤدلج، العبثي، أو الاغتراب المؤدلج العبثي أيضاً. فإنه صار لزاماً على واقعنا أن يتغير، وأن يتخلى عن رموز خرابه وركامه، ويبحث عن خميرة لواقع آخر، خميرة لمستقبل (علينا) أن نجعله أفضل من واقعنا .. وإلا كنا مهددين بخطر الانقراض .. بخطر أن لا يكون هناك مستقبل على الإطلاق.
*******************
في نقطة كهذه على جيلي أن يلتقي بمالك.
ليس لقاء الصدفة، عند باعة الكتب المستعملة.
بل لقاء الحتمية، لقاء الضرورة التاريخية – والحضارية ...
فلننس حرفة مديح المناسبات
أستطيع أن أزعم أن مالك بن نبي يمثل نسيجاً مختلفاً عن كل النسيج الثقافي العربي – الإسلامي - الذي فرض نفسه كرداء شرعي وحيد منذ أن بزغ تساؤل " لماذا تأخرنا ؟ ولماذا تقدموا ؟" أواخر القرن التاسع عشر الميلادي ..
وعندما أقول أنه كان نسيجاً مختلفاً فإني لا أضمر الثناء التقليدي الذي تعودنا أن نوزعه ذات اليمين وذات الشمال كلما دعينا إلى الكتابة عن أحد، بل إني أقصد أن أقول أن اختلافه كان جذرياً جداً عن كل السائد والمنتشر والمتداول من الأفكار .. وربما كان هذا هو سبب من الأسباب التي جعلت من أفكاره تبدو مطمورة وغير قابلة للانتشار. لأنه كان ببساطة يتحدث بلغة أخرى: بأبجدية مختلفة عن الأبجدية التي سادت الخطاب الديني – والخطاب الفكري بصورة عامة .. وهذا ما جعله يبدو هجيناً ونشازاً عن كل السائد.
يتبع ..